ويشير المؤرخ زيمرمان إلى أن هذه المنظومة الفكرية التي أخذت في التبلور في أواخر القرن التاسع عشر كان لها عظيم الأثر على السياسات التوسعية التي تبناها الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت في مطلع القرن العشرين والتي شهدت توهج الحرب الأمريكية الإسبانية التي أسماها روزفلت بـ "أول انتصار كبير في ما سيصبح حركة عالمية".
وبذا، فإن هذا المنظور يتناول التاريخ الأمريكي منذ نشأة الولايات المتحدة وحتى الآن على أنه سلسلة من الحركات التوسعية التي استهدفت تحقيق المصلحة القومية الأمريكية العليا والمتمثلة في ثلاثية الثروة والقيم/ الدين والقوة كما يسميها الباحث المصري سمير مرقس. وتتكون هذه السلسلة من أربع حلقات متعاقبة:
الأولى تتمثل في "التوسع القاري" أي التوسع داخل القارة الأمريكية من شرق القارة المطل على المحيط الأطلنطي إلى غربها المطل على المحيط الهادي، ومن جنوبها المطل على البحر الكاريبي، إلى شمالها المقارب لمحيط القطب الشمالي. والذي مثّل تراكم رأس المال التجاري المحرك المادي له، ومثلت مبادئ "القدرية" Fatalism، و"المصير المحتوم"Manifest Destiny أساسه الأيدلوجي.
أما التوسع الثاني فهو ذاك الذي تمثل في الحرب الأمريكية - الإسبانية والتي كانت بمثابة التوسع الإقليمي للولايات المتحدة باتجاه الجنوب، المتمثل في كل من كوبا وبورتوريكو وجوام والفلبين، وهي المستعمرات التي أُجبرت أسبانيا على التراجع منها إبان حربها مع الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، امتد النفوذ الأمريكي ليشمل بلاد أمريكا الوسطى واللاتينية، أو ما يسمى بمنطقة "الفناء الخلفي" للولايات المتحدة. وكانت عملية التوسع في خلال هذه الفترة مدفوعة بالتراكم الرأسمالي الكبير في أمريكا والذي ساهمت عملية التوسع القاري في تحقيقه بشكل كبير.
أما المرحلة التوسعية الثالثة، فهي تلك الممتدة في الفترة ما بين 1946 و1991، والتي تمثلت في حالة التنافس بين قطبي النظام الدولي المتمثلين في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، والذي أنتج توسعًا أمريكيًّا تمثل في محاولة السيطرة على أوروبا من خلال تقديم الدعم الاقتصادي لها -بموجب خطة مارشال-، ثم من خلال إنشاء حلف الناتو وما استتبعه ذلك من تواجد عسكري أمريكي في القارة الأوربية، واتباع الأخيرة لسياسة الردع والاحتواء في إطار تلك العلاقات التنافسية التي سادت بين الطرفين. كما اتسم توسع الولايات المتحدة نحو الجنوب بإنشائها لأحلاف عسكرية مع كل من أستراليا ونيوزيلاندا، واليابان، والجمهورية الكورية والفلبين، ودخولها في صراع مع الاتحاد السوفيتي في مناطق النفوذ المتنازع عليها بين الطرفين في أفريقيا والشرق الأوسط.
أما المرحلة التوسعية الرابعة فهي تلك التي نشبت بعد انقضاء الحرب الباردة، وهي المرحلة التي وصل فيها الاقتصاد الأمريكي إلى ذروة ازدهاره، واستخدمت الولايات المتحدة تفوقها الاقتصادي والعسكري والثقافي لتكريس موقعها كقوة عظمى على الساحة الدولية. فعلى الصعيد العسكري تمتلك الولايات المتحدة خمس قواعد عسكرية مركزية موزعة على أنحاء العالم ينتشر بها ما يربو على مليون جندي أمريكي. أما على الصعيد الاقتصادي فإلى جانب كون الدخل القومي الأمريكي هو الأعلى على المستوى الدولي، فإن بعض التحليلات تذهب إلى أن التفاعلات الاقتصادية الدولية، والمحكومة بمنطق العولمة القائم على الاعتماد المتبادل وحرية انتقال رءوس الأموال والاستثمارات، هي تفاعلات قائمة على مصالح قطاع الأعمال الأمريكي بشكل رئيسي.
وهكذا فإن الأصوات الأمريكية التي نادت بتأسيس "إمبراطورية أمريكية" وبحلول "قرن أمريكي جديد" تمثل امتدادًا طبيعيًا للسلوك الخارجي للولايات المتحدة الأمريكية منذ نشأتها، وليس تحولا فيه البتة، إلا أن نتائج هذه المرحلة لن يتم حسمها إلا بعد أن تحسم نتيجة الحرب الأمريكية ضد "الإرهاب".
وتنطوي هذه الحلقة الجديدة من مسلسل التوسع الأمريكي على رؤية جديدة تمثل "طموح أمريكا الإمبراطوري" كما يسميه جون إيكنبيري في مقالته المهمة المنشورة في مجلة شئون خارجية. وتنطوي هذه الرؤية التي يسميها إيكنبيري Ikenberry بـ "الإستراتيجية العظمى الجديدة" أو New Grand Strategy على سبعة عناصر أساسية:
أولها يتعلق بأهمية الحفاظ على عالم أحادي القطبية لا يكون للولايات المتحدة فيه أي منافس حقيقي، ولا يسمح فيه بقيام أي تحالف دولي -لا يتضمن الولايات المتحدة- يحقق أي درجة من درجات الهيمنة الدولية. وبذا، فإن الولايات المتحدة لن تسعى إلى الحفاظ على أمنها من خلال إستراتيجية "توازن القوى" ذات الطابع الواقعي، ولا من خلال الاعتماد على المؤسسات الدولية، أو علاقات التكامل الاقتصادي كما تقضي المدرسة الليبرالية، حيث ستسعى الولايات المتحدة إلى تقلد منصب المهيمن المطلق بلا منازع على الساحة الدولية.
أما ثاني هذه العناصر فيتمثل في إعادة تعريف لماهية الكيان الذي يمثل تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي الأمريكي وكيفية التصدي له. وهو التهديد الذي يتمثل في الجماعات الإرهابية الصغيرة المؤيدة من قبل دول مارقة. والتي قد يتسنى لها الحصول على أسلحة دمار شامل واستخدامها ضد الولايات المتحدة.
ثالث هذه العناصر يتعلق بكون المبادئ الحاكمة للإستراتيجية الأمريكية إبان الحرب الباردة، لا سيما ما يتعلق منها بالردع والاحتواء، كونها غير ذات صلة؛ لأن مصدر التهديدات الحالي لا يتمثل في دول بعينها، ولكن في جماعات إرهابية غير محددة. وبذا، فإن التعديل الوحيد لهذه الإستراتيجية هو مبدأ الهجوم، واستخدام الضربات الاستباقية لدرء أي خطر محتمل عن الأراضي الأمريكية.
رابع هذه العناصر يتعلق بإعادة صياغة مفهوم السيادة بحيث يتسنى للولايات المتحدة أن تتدخل في أي مكان في العالم وفي الوقت الذي تحدده للقيام بضربات لدرء أي خطر محتمل يتهددها. هذا إلى جانب إمكانية حرمان الدول التي لا تستطيع تحجيم العناصر "الإرهابية" الكامنة بداخلها من سيادتها على أراضيها.
خامس هذه العناصر يتعلق بتراجع القواعد الحاكمة للنظام الدولي والمتمثلة في قواعد القانون الدولي، والاتفاقيات والمنظمات الدولية، وما إلى ذلك. ويبرر إيكنبري ذلك بسببين رئيسيين: الأول يتعلق بطبيعة التهديد الجديد ولزوم التصدي له بكل الطرق المتاحة، بغض النظر عما إذا كانت تلك مقبولة دوليًّا أم لا. أما السبب الثاني، والأكثر عمقًا، فهو نزوع الإدارة الأمريكية الحالية إلى إدارة العالم وفقًا للقواعد التي تقوم هي بوضعها، وليس تلك التي يفرضها عليها النظام الدولي. (ويبرهن على ذلك بانسحاب الولايات المتحدة من عدد كبير من الاتفاقيات الدولية إبان إدارة بوش الابن كاتفاقية كيوتو، والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية).
سادسًا، تتطلب طبيعة التهديدات الجديدة أن تقوم الولايات المتحدة بلعب دور مباشر ولا يخضع لأي قيد في التصدي لها، وترجع هذه القناعة إلى كون الولايات المتحدة هي القوة الدولية الوحيدة القادرة على القيام بمثل هذا الدور بفضل تفوقها العسكري الهائل على أقرانها من الدول المتقدمة، وأيضًا إلى كون القيام بعمل عسكري من خلال تحالف دولي عادة ما يتسم بقدر أقل من الكفاءة بالمقارنة بالعمليات ذات الطابع الأحادي.
أخيرًا، فإن "الإستراتيجية العظمى الجديدة" لا تلقي بالاً إلى ضرورة المحافظة على "الاستقرار الدولي" والعناصر المكونة له؛ فالإدارة الحالية لا تعتبر الاستقرار الدولي هدفًا في حد ذاته، فالهدف الأساسي هو مواجهة التهديد الجديد الذي تتعرض له الولايات المتحدة، وإذا أدت هذه المواجهة إلى زعزعة هذا الاستقرار فإنه يتعين على النظام الدولي أن يتحمل قدرًا من عدم الاستقرار في مقابل الحصول على قدر أكبر من الأمن على المدى الطويل.
وتمثل هذه العناصر السبعة الرؤية الإستراتيجية لرموز الإدارة الأمريكية الحالية، والتي تم صكها من خلال "وثيقة الأمن القومي الأمريكي لعام 2002"، والتي يتم الترويج لها من جانب رموز التيار المحافظ الجديد كروبرت كاجان Kagan، ولورنس كابلان Kaplan، ووليام كريستول Kristol.
سقوط الإمبراطورية
عرضنا فيما سبق إلى العوامل المؤدية إلى صعود الإمبراطوريات، أو القوى الكبرى، كما أشار إليها المؤرخان بول كينيدي وأموراي رينكود، كما أبرزنا مدى توافر هذه المقومات في الحالة الأمريكية، خاصة مع اقتران العوامل المادية -التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية-بأيدولوجية تهدف إلى الحفاظ على التقدم الأمريكي بكل السبل المتاحة، حتى إن أدى ذلك إلى خرق للقواعد الدولية المستقرة في النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية.
والتساؤل الذي يثور الآن هو عن مدى كون تلك العوامل السالفة الذكر كافية بحد ذاتها لضمان استمرارية "شبه الإمبراطورية" الأمريكية، كما يسميها المؤرخ الأمريكي شارلز ماير، أم أن هناك عوامل أخرى غير متوافرة في الحالة الأمريكية، أو أنها كانت متواجدة، ولكنها أخذت في التناقص في ظل الإستراتيجية الأمريكية الحالية بعناصرها السبع التي عرضنا إليها فيما سبق؟
بعبارة أخرى، ما هي العوامل المؤدية إلى سقوط الإمبراطوريات والقوى الكبرى، وكيف تنعكس تلك العوامل على الوضع الحالي للولايات المتحدة الأمريكية؟
إذا نظرنا إلى عوامل سقوط الإمبراطوريات تاريخيًّا، كما قدمها كل من بول كيندي وشارلز ماير، فإننا سنجد أنها تمثل تحديات كبيرة لمستقبل الكيان "شبه الإمبراطوري" الأمريكي، على حد تعبير ماير، أو على كون أمريكا "قوة كبرى" بتعبير كينيدي، وتتمثل هذه العوامل فيما يلي:
أولاً: معضلة "عسكرة الاقتصاد الأمريكي":
يشير المؤرخ بول كينيدي Kennedy في كتابه الشهير "صعود وسقوط القوى الكبرى" إلى أن أحد العوامل التي تؤدي إلى أفول نجم القوى الكبرى هو "عدم قدرة هذه القوى على الحفاظ على توازن معقول بين متطلبات الدولة دفاعيًا والوسائل المتوفرة لديها للحفاظ على هذه الالتزامات، وعدم قدرتها على الحفاظ على القواعد التقنية والاقتصادية التي تقوم عليها قوتها من التآكل في مواجهة أنماط الإنتاج العالمية المتغيرة دومًا".
وعلى الرغم من كون الاقتصاد العالمي الحالي متوائم بشكل كبير مع أنماط الإنتاج العالمية الجديدة والتي تتسم بكونها "ما بعد صناعية" بالأساس، فإن هناك العديد من التساؤلات التي تثور حول ما إذا كان اقتصاد الولايات المتحدة يستطيع أن يحقق معدلات نمو مرتفعة وهو الذي كان يمر بأزمة اقتصادية أدت إلى تراجع هذه المعدلات بسبب انهيار العديد من شركاته العملاقة في الآونة الأخيرة في ظل الميزانية العسكرية الضخمة التي قامت الإدارة الأمريكية برصدها للإنفاق العسكري، وصدق عليها الكونجرس، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وهنا يبرز العامل المتعلق بإمكانية الحفاظ على التوازن الدقيق بين "متطلبات الدولة الدفاعية" وبين القاعدة الإنتاجية/ الاقتصادية التي تقوم عليها هذه الالتزامات كما أشار كينيدي. ويشير إيفان إيلاد، مدير مركز الدراسات الدفاعية في مؤسسة كاتو الأمريكية، إلى هذه الحقيقة في تحليله المعنون "الإمبريالية الجديدة، وعيوبها المميتة"، حيث يتحدث عن كون الإنفاق العسكري الأمريكي يمثل 40% من إجمالي الإنفاق العسكري لدول العالم، وهو ما يمثل أكثر من ضعفي مجموع الإنفاق العسكري لكل منافسي الولايات المتحدة. وفي مقابل ذلك، فإن الدخل القومي الأمريكي يمثل 29% فقط من إجمالي الدخل القومي العالمي، ويعد هذا الفارق مؤشرًا على عدم التوازن بين الدخل الاقتصادي والإنفاق العسكري الأمريكي. كما يشير إيلاد إلى أن هذا المؤشر يدل أيضاً على مشكلة "الراكبون المجانيون" أو الـ Free Riders والتي تشير في هذا السياق إلى كون حلفاء الولايات المتحدة يعتمدون بشكل كبير على القدرة الدفاعية الأمريكية، وبذا فإنهم لا يحتاجون إلى توجيه أجزاء كبيرة من دخولهم إلى هذا البند، والمحصلة أنه على الرغم من كون الدخل القومي الأمريكي يربو على دخل الدول الثلاث التالية عليه في ترتيب الدخل القومي مجتمعة، إلا أن الإنفاق العسكري الأمريكي يربو على الخمس عشرة دولة التالية عليه في الترتيب، وأغلبهم من حلفاء الأمريكان.
ثانيًا: معضلة الحدود Frontiers:
يشير المؤرخ الأمريكي شارلز ماير إلى أن أحد أهم العناصر التي تقوم عليها الإمبراطوريات هي صياغة حدود محددة لها يتم بموجبها تحديد معايير ضم أو استبعاد كيانات معينة من الإمبراطورية. وإلى جانب كون هذه الحدود تمثل إشكالية أساسية في كيفية تحديدها على المستويين الجغرافي والاجتماعي، وتحديد ماهية المناطق التي تقع داخل نطاق الإمبراطورية ومن ثم ماهية العوائد التي يتعين تقديمها لحلفاء الإمبراطورية، فإن التوزيع المتفاوت لهذه العوائد يخلق قدرًا كبيرًا من عدم المساواة على المستوى الدولي، ومن ثم فإنه يثير مشاعر من الحرمان النسبي لدى بعض الدول الكائنة خارج هذا النطاق، وقد يؤدي ذلك إلى ازدياد العداء للكيان الإمبراطوري الذي يعد مسئولاً عن هذا التفاوت، ومن ثم إمكانية مقاومته بأساليب غير تقليدية. ويؤدي هذا العنصر إلى إثارة إشكالية أخرى تتعلق بنطاق توسع الإمبراطورية. فتاريخ الإمبراطوريات يشير إلى أن التوسع الإمبراطوري عادة ما ينشأ بسبب حالة عدم الاستقرار التي تشهدها آخر منطقة تمت السيطرة عليها، وهو ما يؤدي إلى دخول الكيان الإمبراطوري في سلسلة متعاقبة من التوسعات تؤدي في نهاية المطاف إلى إنهاكه وسقوطه.